مقال السفير الروسي بالقاهرة جيورجي بوريسينكو «أمن واستقرار مصر وحولها — أولوية روسيا» جريدة الأهرام، 22 يوليو 2020
أمن واستقرار مصر وحولها – أولية روسيا
يشهد العالم تغيرات جادة خلال العقد الاخير. وربما أحست منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا بها قبل المناطق الاخرى عندما بدأ ما يسمى بالربيع العربي في سنة ٢٠١١ الذي اسفر عن تقويض الاسس للدولة وأدّى إلى تصاعد التطرف وحتى حرص المتطرفين على إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء.
وجدت مصر نفسها، وهي الصديق القديم والشريك الاستراتيجي لروسيا، في قلب هذه الأحداث. هذا، وتشمل انجازاتنا المشتركة مئات المشاريع في مجالي الصناعة والبنية التحتية التي حقّقناها سوياً على أراضي مصر في الستينات والسبعينات للقرن الماضي وكذلك المشاريع الاقتصادية الهامة التي يتم تنفيذها حاليًا بالاضافة إلى التعامل الوثيق والطويل الأمد على الساحة الدولية. نقدر هذا التعاون الثنائي ونفتخر به.
تلعب مصر، التي تتمتع بالموقع المركزي في الشرق الأوسط وشمال افريقيا، دور قناة الحوار بين روسيا والمجتمع العربي الواسع والقارة الافريقية باكملها. فإن القاهرة، التي تستغرق الرحلة الجوية إليها من موسكو أربع ساعات ونصف فقط، هي ليست فقط مكان مقر جامعة الدول العربية والعضو الناشط للاتحاد الافريقي بل من الدول الرائدة المعترف بها في حركة عدم الانحياز. ثمة المستوى العالي للدعم المتبادل بيننا وبين كل المنظمات هذه بما في ذلك بفضل الصداقة الروسية المصرية.
بالنسبة لروسيا أمن وازدهار مصر ضمان هامّ لعودة استقرار ليس فقط إلى المنطقة المحيط بها بل إلى نظام العلاقات الدولية بأكمله.
يسعدنا جدا أنه بعد تجاوز الاختبارات الصعبة في أوائل العقد الماضي يبنى المصريون اليوم مستقبلهم بثقة تحت قيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي. لكن الفترة الصعبة مستمرة بالنسبة لبعض شعوب الشرق الاوسط وشمال إفريقيا.
إذ خلال حوالي عشرة سنوات لا تزال إراقة الدماء في سورية. إن شعارات حماية الدمقراطية في هذا البلد سبقت للهجمات الوحشية لقوى الإرهاب الدولي وخاصة بدعم بعض الدول الأجنبية التي تعتبر بانها تتمتع بحق تقرير مصير الاخرين. أدى ذلك إلى سقوط مئات الألاف من السوريين وتدمير الاقتصاد ومواقع التراث الثقافي والاحتلال الأجنبي الفعلي لجزء من الأراضي السورية وتظل محاولات إبعاده من سيطرة دمشق.
تعتقد روسيا أن الشعب السوري هو الذي يختار مصيره وقادته. لكن عودة سورية إلى الأسرة العربية – جامعة الدول العربية – سيساعد بالتأكيد سرعة إنهاء للنزاع فيها وإعادة تعميرها.
إن الوضع في ليبيا حيث دمّر التدخل الخارجي في سنة ٢٠١١ الحياة السلمية شغل مرة أخرى المقام الأول ليس بالأجندة الإقليمية فحسب بل في جدول الأعمال الدولي. ندرك جيدًا قلق مصر التي ترتبط الأحداث في البلد المجاور لها بضمان أمنها القومي مباشرةً.
تؤلم القضية الفلسطنية منطقة الشرق الاوسط منذ الزمان الطويل وقد يشتعل هذا النزاع قريبا من الحدود المصرية من جديد. إنه خاطئ وخطير عندما تلعب الدول الكبرى الواقعة خارج المنطقة بأقدار ومصائر الشعوب وفقا لمصالحها الخاصة المتعلقة بالحسابات الانتخابية لسلطاتها. هذه اللعبة الظالمة قاسية بالنسبة للفلسطينيين الذين تربط بينهم وبين روسيا أواصر الصداقة القديمة وكذلك محفوفة بالخسائر الجسيمة لاسرائيل القريبة منا تاريخيا بنفس المستوى.
وكذلك تثير المواجهة بين واشنطون وطهران قلقا شديدا من ناحية امن المنطقة المحيطة بمصر. فيجب المنع من تصعيد الصراع، المخطط بما في ذلك وفقا لجدول الانتخابات الأمريكية.
للآسف الشديد يقول مسؤولو الولايات المتحدة في غمرة الحملة الانتخابية الرئاسية في بلادهم بشكل واضح ومباشر عن امكانية المواجهة العسكرية مع ايران. وهل يستفيد الشرق الاوسط من صراع الدمار والمعاناة هذا؟ وهل العالم الاسلامي بحاجة الى تعميق الخطوط الفاصلة؟
هذا، وتفهم روسيا الاهمية الحيوية لنهر النيل كمصدر رئيسي للمياه العذبة لمصر. أما بناء سد النهضة الاثيوبي فنأمل في ايجاد الحل الوسط الذي يأخذ في عين الاعتبار مصالح جميع الاطراف المعنية بما فيها اثيوبيا التي تتمتع بالحق الكامل لتطوير طاقة المياه. من الممكن بلا شك ايجاد الحل الوسط اذا استندت مواقف الدول الثلاث إلى مبادئ الاحترام المتبادل وحسن الجوار التجنب عن اتخاذ الخطوات الاحادية. ولا بد لشعوب حوض النيل من الذكر أنها ستتعايش مع بعضها البعض غدا وبعد سنة وبعد مئة عام.
يزداد عدد التحديات التي يواجهها العالم مما يسرع في التغيرات في الشؤون الدولية. أظهر الاندلاع العالمي المفاجئ لفيروس كورونا المستجد أن بعض الدول التي كانت تُعد أو تعتبر نفسها بأنها أكثر البلدان تطورا وتقدما ليس من الضروري ان تعالج تلك القضايا الخطيرة مثل الجائحة بطريقة أكثر فعالية. وتفوقت عليها بشكل واضح تلك الدول التي تمكنت من سرعة تعبئة أقصى قدر من مواردها وأظهرت انضباطا على الصعيدين الإداري والاجتماعي. فإن روسيا ومصر من بينها.
يؤكد هذا الوضع مرة أخرى على أنه لا يوجد ولا يمكن ان يكون زعيما أو مركزا وحيدا في المجتمع الدولي.لا يمكن ان يكون احد أفضل من الجميع في كل شيء – أكثر قوةً وحكمةً ونجاحًا. من الممكن ان تنجح بعض الدول في شيء مّا في مختلف المراحل ولكن النماذج التي أُنجزت في احد جهات العالم ليست مطبقة بالضرورة في الجهة الأخرة. من البديهي أن العالم له أشكال وأقطاب متعددة.
إذًا من المشكوك فيه أن الجهة الخارجية قادرة على حل المشاكل لهذه أو تلك المنطقة بدلا من مواطنيها. بالطبع يمكن المجتمع الدولي ان يساعد في حل العقد الصعبة وتهدف سياسة روسيا في الشرق الاوسط إلى ذلك بالذات. لكن التسوية طويلة الأجل لاي نزاع او أزمة لا يمكن التوصل إليها إلا عن طريق الحوار البناء بين الأطراف المشاركة.
لا سيما لا ينبغي التعويل على القوة الخارجية التي تحاول فرض ما يُسما بـ"النظام العالمي القائم على القواعد" بدلا من الالتزام الدقيق بالقانون الدولي الذي وضعه العالم كله ويستند إلى الاحترام بسيادة الدولة ووحدة اراضيها. تم تحديد مثل هذه "القواعد" دون مشاركة العالم العربي في الظروف التاريخية والسياسية المختلفة تمامًا. وببساطة تتجاهل تقاليد الشعوب الاخرى التي يعود تاريخها لالاف السنين. ما حدث في العراق بعد عام ٢٠٠٣ وما يعيشها سورية وليبيا منذ عام ٢٠١١ نتيجة لذلك التأثير الخارجي الغاشم.
كان التاريخ يعرف العديد ممن رغبوا في خلق على كوكبنا المشترك "النظام الجديد" الذي ينطوي على هيمنتهم ولا يوالون موجودين حتى الآن وفي نفس الوقت أولائك الذين تنافسوا على موقف متقدم في القرن الحادي والعشرين لا يتمشون كما أصبح ملحوظا في الآونة الأخيرة مع تلك المعايير التي استخدموها لقياس الدول الأخرى وكما اتضح إنها هشاشة في بواطنها.
يعني ذلك أن العالم سيواصل تغييره ويمكن توقع إعادة توزيع النفوذ بين أقطاب العالم. وان المجتمع العربي والحضارة العربية الفريدة لديهما كل الإمكانيات أن تصبحا أحد الأقطاب هذه إن تم التغلب على الأزمات الإقليمية الحالية وان لم يعرقل احد لتنمية الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
لا تحاول روسيا أن تغير أحدا وفقا لمعاييرها. إننا نهتم بتوفير الأمن ليس لمصالحنا فحسب بل للعالم كله ولا نعلّم الآخرين كيف يجب عليهم أن يعيشوا ولكن نتطلع إلى زيادة التعاون الاقتصادي على أساس المنفعة المتبادلة. ومن اجل ذلك يجب أن تكون منطقة الشرق الأوسط منطقة مستقرة كونها منطقة محورية حيث تتقاطع طرقها القارات والثقافات المختلفة ونحن منفتحون للتعامل البناء مع كافة دول الشرق الأوسط وكل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والصين ومراكز النفوذ الأخرى. وبالطبع نأمل في تعزيز الأواصر المنوعة مع جمهورية مصر العربية التي نقدرها عاليا.